لا شكّ أنّ الإنسان اجتماعيٌّ بطبعه، فهو يحتاج إلى من يؤنسه ويرافقه ويشاركه في نمط عيشه وأسلوب حياته. لذلك كان بديهيا ظهور المجتمعات وتطوُّرها. وبما أن الاختلاف طبيعة بشرية، حيث أننا نختلف في الشكل واللون والجنس والذوق والرغبة والتفكير والإدراك، فمن الطبيعي أن توجد داخل المجتمع الواحد تكتلات وجماعات بارتباطات مختلفة. واليوم في ظل التطور الحاصل في نوعية العلاقات الاجتماعية وتعدد الانتماءات الفرعية، عرقية كانت أو فكرية أو عقائدية، فإن مبدأ "الوحدة في التنوُّع" بات يشكل دستورا ثابتا وعقيدة راسخة بالنسبة للمجتمعات الحداثية التي تعتبر المواطنة إطارا جامعا لكل أفرادها.
التعقيد يكمن في مفهوم الوحدة. فالتعريف المادي للوحدة والذي يفيد تجميع الأشياء المتفرقة في كُلٍّ واحد، يفترض من الناحية المنطقية أن تكون هذه الأشياء إما من نفس النوع أو أنها متكاملة. وبالتالي فالإطار الجامع الذي يُعرّف هذه الوحدة ويدل عليها هو الذي يحدد هل هي قائمة على تجمع نوع معين أم على التحام أجزاء متكاملة رغم اختلافها. والانسجام الحاصل في عالم الطبيعة هو نتاج التوازن العضوي بين هذين الصنفين من الوحدات: تلك القائمة على نفس النوع، أو على تكامل الأجزاء. فمثلا جسم الإنسان هو وحدة متكاملة مبنية على ترابط الأعضاء والأنسجة المختلفة، وفي نفس الوقت كل عضو وكل نسيج هو وحدة أو مجموع وحدات مكونة من نفس النوع من الخلايا.
هذا التشبيه ينطبق إلى حد كبير على التعريف الاجتماعي لمفهوم الوحدة، فالمجتمع Society أو الجامعة Community ــ والتي تعني الجماعة المشتركة ــ هي وحدات مكونة من مجموعة من الناس تعيش سوية بشكل منظم ويجمعها إطار موحد. وهذان المصطلحان هما على الأغلب مترادفان، وإن كان المصطلح الأول مرتبط أكثر بالأرض والجغرافيا، في حين أن المصطلح الثاني يرتبط أكثر بالهوية سواء كانت ثقافية أو إثنية أو دينية. وبصفة عامة، فإنّ المجتمع البشري هو عبارة عن منظومة معقدة تتغير وتتطور باستمرار، وهذا ما يجعل منه وحدة كلّية متكاملة، وفي نفس الوقت مكونة من مجموع وحدات غير مستقرة في الزمن وقابلة لإعادة التشكيل.
وهنا تتجلى أهمية الإطار الجامع أو المُوحِّد، فهو الذي يحدد نوع العلاقات الاجتماعية المؤسسة لهذه الوحدة سواء من حيث النوع أو من حيث التكامل. فالمجتمع العرقي المبني على عرق معين، يختلف عن المجتمع الديني القائم على الانتماء لنفس الدين، وعن المجتمع الجغرافي المرتبط بمفهوم الدولة. وبالنسبة لهذا الأخير، فإن تحوّل إطار الدولة من الإطار القومي أو الديني إلى إطار المواطنة جعل هذا النوع من المجتمعات يتحول من وحدة نوعية إلى وحدة تكامليّة تجتمع فيها الأعراق والأديان والثقافات المختلفة. وهذا بطبيعة الحال، يتطلب مجموعة من الآليات والترتيبات العملية حتى تعاد صياغة بعض المفاهيم كالولاء والسلطة والتشريعات والحقوق والواجبات. فقديما كان طبيعيا، بل ومحمودا، أن يتعصّب الإنسان لقومه على حساب الأقوام الأخرى التي تنتمي إلى عرق أو دين مختلف. الآن، أصبحت هذه الأقوام تنتمي إلى المجتمع الواحد، ولها هدف مشترك ومصلحة موحدة، فكيف يمكنها تحقيق هدفها إذا بقي هذا التعصب قائما؟
ويمكن الحديث، اليوم، عن نوعين من المجتمعات: مجتمعات مادية مرتبطة بجغرافيا محددة بحدود رسمية وممثلة بدول معترف بها في المحافل الأممية حيث تملك سلطة اتخاذ القرار، ومجتمعات معنوية ليست لها حدود معيّنة ومرتبطة إما بعرق أو بلغة أو بدين معيّن، وهي مجتمعات لا تملك سلطة اتخاذ القرار في المنظومة الدولية. وعلى هذه المجتمعات المعنويّة أن تتعلم أسلوب العيش المشترك المبني على الحرية والمساواة. فحتى مبدأ التّسامح الذي كان يقترن بالتّحكم والسّيطرة الأحادية لم يعد صالحا. هذا مردُّه من جهة إلى التقسيم الجغرافي الجديد الذي أفرز دولا حديثة مستقلة سياسيا ومتفاوتة الحجم والأهمية، ومن جهة أخرى إلى العولمة وما صاحبها من تعريف جديد لمفهوم السلطة القائم على مبدأ الديمقراطية، وأيضا لطبيعة العقد الاجتماعي الذي أصبح يرتكز على مبدأ المواطنة.
وكما هو حال التغيير حين يكون عضويا، حيث نشاهد في آن واحد معالم الحالة الأولية والحالة الجديدة والحالة التي هي في طور التحول، فإننا سنجد دولا حداثية ذات مجتمع تكاملي يتجسد فيها مفهوم التعايش والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين على اختلاف انتماءاتهم العرقية والدينية، ودولا تقدم نفس النموذج القديم للمجتمع، المرتبط بعرق أو دين بعينه، وتقاوم كل أشكال التغيير. وبين هذه وتلك، هناك دولٌ تبنت مبادئ الديمقراطية والمواطنة كاختيار عام، ولكن من الناحية العملية لا يزال فيها جزء من المجتمع مرتبط بعرق أو دين معيّن يفرض شروطه في التعايش و "يسمح" للأجزاء الأخرى بالتّواجد على أن تقبل بهذه الشروط. وهذا ما نتج عنه مفهوم "انتقالي" يقسم المجتمع الواحد إلى أغلبيّة ومجموع أقليّات.
يهمُّنا بالطبع أن نعرف موقعنا من بين هذه الحالات الثلاث، حتى نساهم بدورنا في هذا التغيير. فنحن نشهد حقا ولادة الخلق الجديد. ومهما كان الوضع صعبا ومعقدا، سنظل متفائلين، ما دمنا مقتنعين بأن ما يحدث هو مجرد مرحلة انتقالية تمر بها الإنسانية بشكل عام، وما دام التغيير حاصل لا محالة لأنه ذاتي ويدخل في إطار نموها العضوي. فما نشاهده من صراعات وحروب ما هو إلا نتاج هذه التعصّبات المتأصّلة فينا، والتي حوّلت اختلافاتنا إلى هويّات متقاتلة. ولا حلّ لهذا الوضع المأساوي سوى بإقرار مبدإ الوحدة في الاختلاف والتنوع، واعتبار المواطنة إطارا جامعا تنصهر فيه كل الهويات الفرعية، عرقية كانت أو لغوية أو دينية. هذا يتطلب بالضرورة تغييرا في القوانين المنظمة للمجتمع لتساير مفهوم المواطنة، وفي سلوكياته حتى نمحو التعصبات بكل أشكالها، وفي أهدافه حتى نأخذ دورنا كعضو حيويٍّ في هذا الجسد الإنساني.
Comentarios