المواطنة واحدة من المفاهيم الكونية التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من ثقافتنا وهويتنا الاجتماعية. فالكلمة ليست بالأصيلة في اللغة العربية، وإنما أُدرجت لتعوض مفاهيم متقادمة من قبيل "القبلية" و"القومية". والمواطنة كما تُعَرِّفُها دائرة المعارف البريطانية هي "علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة". ولطالما ارتبطت المواطنة بمشاعر الانتماء للأرض التي نعيش فيها أو البلد الذي ولدنا فيه وإن كنا لا ندرك فعلا كيف يولد هذا الشعور ويتطور لدرجة يُقبِّل فيها البعض تراب البلد الذي فارقه فور نزوله من الطائرة ويتلذذ وهو يستنشق هواءه وكأنه يختلف عن كل بقاع الدنيا.
هذا الشعور بالانتماء يتجلى في الكيفية التي نمارس بها مواطنتنا كشكل من أشكال الهوية الاجتماعية وليس فقط مجرد ممارسة قانونية. فبالنسبة للفيلسوف والمفكر المغربي محمد عابد الجابري، المواطنة "تتميز بنوع خاص من ولاء المواطن لوطنه والتعاون مع المواطنين الآخرين عن طريق العمل المؤسساتي والفردي الرسمي والتطوعي في تحقيق الأهداف التي يصبو لها الجميع". أما منظمة اليونسكو فتعرف المواطنة على أنها "مجموع عمليّة الحياة الاجتماعيّة التي عن طريقها يتعلّم الأفراد والجماعات داخل مجتمعاتهم الوطنيّة والدولية أن ينمّوا بوعي كافّة قدراتهم الشّخصيّة واتّجاهاتهم واستعداداتهم ومعارفهم". 1,2,3
ولا يمكن الحديث عن المواطنة دون الحديث عن الهوية. فإذا كان مفهوم المواطنة نعني به الانتساب الجغرافي لأفراد المجتمع من خلال الارتباط ببقعة جغرافية محددة تتمثل بالمدينة والدولة وبالوطن الواحد عموما، فإن الهوية تشير الى الانتساب إلى معتقدات وقيم ومعايير معينة تحددها الثقافة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد والتي يكتسبها من خلال الولادة وعملية التنشئة الاجتماعية السوية التي يمر بها في حياته. فالهوية لازمة للمواطنة، لأن المواطنين لا بد لهم من نظام سياسي، وعلاقات اقتصادية واجتماعية، وقوانين تضبط هذه العلاقات. وكل هذا إنما يبنى على معتقدات وقيم ومعايير، أي على هوية معينة. لذلك فإن المواطنين، مهما كان إخلاصهم لوطنهم وحرصهم على مصلحته، لا يمكن أن ينظروا إلى تلك المصلحة باعتبارهم مواطنين فقط، بل لا بد أن ينظروا إليها بحسب هوياتهم أيضا. 4,5
من الواضح إذن، أنَّ المواطنة ليست مجرد فكرة بل هي ممارسة لعلاقة الفرد بالدولة، وتجسيد لهويته الاجتماعية المرتبطة بالأرض والوطن. ولكي يتحقق ذلك يجب أن تكون الهوية الوطنية المبنية على روح المواطنة أسمى من باقي الهويات الفرعية الأخرى سواء كانت لغوية أو إثنية أو دينية. بهذا يصبح المواطنون، أبناءُ الوطن الواحد، إخواناً في المواطنة بالرغم من تنوعهم الديني والثقافي وانتماءاتهم الفرعية المختلفة، يوحدهم هدف مشترك هو خدمة الوطن وبناؤه. فبفضل المواطنة يزول الاختلاف وتتأسس الوحدة في التنوع.
أمَّا الوطنيّة المتطرِّفة، وهي شعور يَخْتَلِف عن ذلك الشعور المشروع المتَّزن، فلا بدّ أن يُستعاضَ عنها بولاءٍ أوْسَع، بمحبّة العالم الإنسانيّ ككلّ. ففكرة المواطنة العالمية جاءت كنتيجة مباشرة لتقلُّص العالم وتحوُّله إلى قرية يَتَجاوَر فيها الجميع، بفضل تقدُّم العلم واعتماد الأمم بعضها على بعض اعتماداً لا مجال لإنكاره. فالمحبّة الشّاملة لأهل العالم لا تَستثني محبّة الإنسان لوطنه. وخير وسيلة لخدمة مصلحة الجزء في مجتمع عالميّ هي خدمة مصلحة المجموع. يتفضل حضرة بهاء الله :
الأرض وطن واحد وجميع البشر سكانه
إن البحث في مفهوم المواطنة العالمية أو الكونية ووضعه في سياقه التاريخي، المرتبط بالتطور الحاصل في النظام العالمي الجديد، وتفسخ الحدود الجغرافية والثقافية التقليدية بين البلدان والشعوب، يتطلب معرفة الثقافة الكونية لحقوق الإنسان في تجلياتها السلوكية. كما يتطلب حدًّا أدنى من المعارف حول التجارب الإنسانية ونضالات الأفراد والشعوب في مختلف بقاع الأرض، والتضحيات التي قدمت من أجل ذلك، واستخلاص الدروس الضرورية من هذه الخبرة العالمية المكتسبة والتي راكمت ميراثا ثقافيا وعلميا كان له الفضل في تحرير الإنسان وتحقيق إنسانيته. وهناك تفسيرات متعددة لمصطلح "المواطنة العالمية"، بيد أن المفهوم الشائع هو أن المواطنة العالمية شعور بالانتماء إلى مجتمع أوسع يتخطى الحدود الوطنية، شعور يُبرز القاسم المشترك بين البشر ويتغذى من أوجه الترابط بين المستويين المحلي والعالمي والمستويين الوطني والدولي. ويكون "المواطنون العالميون" هم الأشخاص الذين يسعون في طريقة تفكيرهم وسلوكهم إلى بناء عالم يتسم بالمزيد من العدل والسلام ومقومات البقاء. فالسلام الدائم لا يقتصر على الأمن وعدم التعرض للعنف فقط، كما جاء في الميثاق التأسيسي لليونسكو :
لما كانت الحروب تولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام
وكباقي أشكال الهوية الاجتماعية أصبحنا نؤسس للمواطنة في مجتمعاتنا من خلال التربية، وهو ما صرنا نصطلح عليه اليوم بِ "التربية على المواطنة". وحيث أنَّ القيم هي الموجِّه الأساس لعمليَّة التربية لكونِها ترسم الطريقَ وتنبثق عنها الأهداف، اهتمَّ علماء التَّربية بدراستها ليتحدد مسار العمليَّة التعليمية على الوجه الصحيح والسَّليم. فالتربية وفق هذا المنحى تسعى لبناء الفرد الصَّالح الذي ينفع نفسه ومجتمعه، وينطلق في عمله من قِيَم راسخة توجِّهه إلى الطريق السليم، الشيء الذي يؤهِّله للمساهمة في تنمية وإصلاح المجتمع الذي ينتمي إِليه. لكن ما نود التأكيد عليه هنا، هو البعد الروحاني الذي يجب أن تشمله هذه التربية، وألا تقتصر فقط على الجوانب الماديّة التي أصبحت تطغى على مختلف الأنماط الحياتيّة.
لكم هو جميل أن نشاهد هذا التطور والارتقاء في المفاهيم والقيم التي طالما حددت علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، من القبليّة إلى المواطنة، ومن القوميّة إلى المواطنة العالمية.
1. دائرة المعارف البريطانية، The New Encyclopedia Britannica ، ج3 ص332
2. محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998) ص135
4. عبد الرزاق عيد، الثقافة الوطنية: الحداثة وإشكاليات الهوية سلسلة دراسات فكرية (حلب: دار الصداقة،1996) ص1
5. جعفر إدريس، المواطنة والهوية (مجلة البيان، ع211) ص33
Comments